آليت في هذه الكلمة أن تأخذ الكتابةُ مجرى مختلفاً، عن دوافع الكتابة في موضوع الهوية، ولماذا أرى نفسي مؤهلاً للكتابة في هذا الأمر.
بدأ الأمر بكل بساطة بكوني فلسطيني عاش خارج فلسطين في بلدانٍ مختلفة، ولم أكن يوماً أشعر أن المكان كافٍ لي للتعبير عن مكنوناتي الحقيقية ودوافعي النفسية كإبنٍ للبلد والمكان الذي أنا فيه.
ويظن البعض أن الحصول على جنسيةٍ ما يكفي ليحدد من أنتَ وكيف يجب أن تفكر، بل وتمت برمجة الوعي بأن الجنسية هي عبارة عن مجموعة من المنافع التي تحصل عليها وكفى، فلكل جنسية مزايا من نظام طبي متاحٍ وقائمةٍ من الدول التي يمكن لك أن تسافر لها، وكأن العالم تحول إلى شركة، ومن يتنقل فيها من مكانٍ إلى مكان، فكأنما حصل على ترقيةٍ في السلم الوظيفي على هذه المعمورة. فمن هذا المفهوم السائد وهذه النظرة النفعية في تعريف الإنسان وحصره بجنسية، شعرتُ وكأنما هناك ضغطٌ هائلٌ في المفاهيم ضد ما أشعر به، وضد التيار الذي أسير فيه محاولاً الإجابة على سؤال: من أنا؟
والذي أثار نقع الغبار لهذا السؤال تحديداً، هو قراءتي لكتب ومقولات الفلسفة في مقتبلٍ من العمر. بل ظل هذا السؤال يعيد نفسه مراراً وتكراراً في العديد من مراحل حياتي، وأقواها عندما غصت في "عالم صوفي"، روايةٌ تدور حول تاريخ الفلسفة، وتبدأ برسالة تصل من خلال البريد إلى طفلة اسمها صوفي، رسالةٌ من مجهول تقول فيها: من أنا؟ لقد كان لهذه الروايةِ وقعٌ فلسفي على طبيعتي وعلى مسار حياتي التي هي ليست إلا نتاجَ ما أفكر.
وفي مرحلةٍ من مراحل حياتي انسقت مع التيار الجمعي في البلد الذي كنت فيه، ولربما، لربما كان ذلك بسبب المنافع التي كنت أحصل عليها، فعمتني عن رؤية الواقع الحقيقي لتلك البلد، ثقافةً واقتصاداً وهويةً وفكراً. فمن طبيعة المرء أنه يفكر من خلال أحاسيسه قبل عقله، فالجائع لا يفكر مثل الشبعان، والغاضب لا يفكر مثل الهادئ.ثم قُدر لي أن أخرج من تلك البلاد معتزاً بما ظننت أنه يحمل الكثير من المعاني، وذهبتُ إلى المناطق التي يعيش فيها السكان الأصليون لتلك البلاد، والذين كانوا قد تعرضوا إلى الكثير من الاضطهاد مؤخراً من قِبَل الأوروبيين الذين دخلوا عليهم وقد استمر هذا الاضطهادُ سنواتٍ طوال حتى قبل عشراتٍ من السنين فقط، فقد كانوا يُلبسونهم العقود التي تحمل أرقاماً كالكلاب، وكانوا يمنعونهم من أن يستخدموا أسماءهم التي من لغتهم، بل منعوهم من ممارسة لغتهم، وأخذوهم أطفالاً من بيوتهم بعلم أهلهم وأحياناً دون علم أهلهم وأرسلوهم إلى عوائلَ أوروبية ليعيشوا معهم بعيداً عن ذويهم، وأرسلوهم إلى مدارس دينية، يُمارس فيها الاضطهاد والتعنيف والتحرش الجنسي، بل ومازالوا إلى الآن في تلك البلاد يكتشفون مقابرَ جماعية لأطفالٍ أصابتهم الأوبئة أو ماتوا بسبب قلة العناية والظروف السيئة، وما تزال الكثير من العوائل تحاول الحصول على قائمة الأسماء لأولئك الأطفال من تلك المدارس دون جدوى. بل إن الكثير منهم إلى الآن يكتشف أقاربه من خلال فحص الجينات الذي يبين قرابة النسب، أعرف البعض منهم ممن عرف أخته مؤخراً وهو يبلغ من العمر الخامسةَ والأربعين. أصفهم بأنهم أمةٌ تحاول إعادة كينونتها، والكينونة في نظري شيءٌ يسبق الهوية، فكم طويلٌ هو طريقهم للوصول إلى هويتهم التي لن تعودَ الكثير من أجزائها أبداً.
كيف انعكست هذه التجربة مع هذه الأمة على مفاهيمي التي جئت بها من حيث أتيت؟ أولاً، إن المستعمر الأوروبي هنا، هو ذاته المنتشر في بلاد الشام والجاثم على صدر فلسطين. ثانياً، لقد استطعتُ أن ألاحظ النمط في خطاب الحكومة الأوروبية التي أعيش في ظلها الآن (بغض النظر عن موقعها خارجَ أوروبا)، وبين الحكومة التي كنتُ أعيش فيها، واستطعتُ أن أفهم إلى ما ترمي هذه الخطابات التي لا يفهمها الناس، واستطعت بشدةٍ أن أعي أن التحدي والعائق في وجه الحكومة التي كنتُ أعيش فيها، هو درجة من الوعي الجمعي التي تجعل مهمة الاختراق صعبة. قد يستغرب الكثير ويقول بأن الاختراق حاصل بطبيعة الحال في وعي بلاد الشام، فالحال مترديةٌ جداً! أقول، نعم، الحال مترديةُ جداً، لكن مساعي هذه الحكومات وأهدافها المستقبلية في تفكيك الهوية أبعد وأكثر بكثير مما تم إنجازه. ولهذا أقول أن الوعي كان عائقاً شديداً أمام تلك الحكومات الأوروبية النفَس، ولكن، ما زالت تلك الهوية لم تفقد كينونتها، فمحتوياتها الجينية والتاريخية والثقافية موجودة هنا وهناك ويمكن التقاطها وإعادتها إذا ما تداركنا الأمر.
إن هذه الظروف والحيثيات التي عايشتها وخالطتها عن قربٍ ولسنوات، تجعلني مسؤولاً أمام بلاد الشام بالدرجة الأولى وأمام فلسطين بالدرجة الثانية، لأن أمةَ بلاد الشام إذا ما استعادت هويتها وعرفت من تكون، لن يظل للاستعمار آثارٌ في منطقتنا ولا حتى في فلسطين، إلا تلك الآثار الحتمية التي جلبها المستعمر طول تلك السنين، فقد فقدنا في تلك التجربة الكثير من الأشياء، وانتفعنا بالكثير من الأشياء الأخرى. بل لعل أمة بلاد الشام جاءها هذا الاستعمار الغاشم لأنها نسيت، فجاء ليوقظها وليذكرها بمن تكون، حتى تصير في مصافي الأمم المتقدمة الحريصة المنيعة ذات الثقافة الراسخة.
Comments