للأمم والجماعات والتكتلات شخصياتها وسماتها التي ترسم الخطوط العريضة لها. فمثلاً، نسمع الكثيرَ يقولون كلمة الغرب المنفتح، أو توصف مجموعة بأنهم من المحافظين في طباعهم، ولم تبقَ هذه الملاحظة في عقول الناس، بل تحولت إلى دراسات مختصة تقيس المجتمعات ضمن محاور محددة، ومنها نظرية هوفستد Hofstede، عالم النفس الإجتماعي الهولندي Geert Hofstede ، وهي تدرس الأمم والدول والشعوب على 6 محاور أو مقاييس ثقافية أختصرها في البداية ومن ثم أستطرد:
شرح محاور هوفستد الثقافية
أولى هذه المحاور هو محور مسافة القوة Power Distance وهو المحور الذي يقيس نسبة المساواة في كل مجتمع، ويعبر عنه هوفتسد بأنه المقياس الذي يحدد مدى قَبول الأقليات لنسبة عدم المساواة الممنوحة والمفروضة في المجتمع، فكلما ارتفع المؤشر حيثُ مسافة القوة مرتفعة في مجتمع ما، كان قبول الأقليات لعدم المساواة أكبر، ويشمل هذا المعيار سلطة الأب على الإبن وسلطة المدير على الموظفين.
المحور الثاني في هذه الدراسة هو محور الفردانية مقابل الجمعية، وهو يشير إلى قوة الترابط بين أفراد المجتمع ومؤسساته. حيث تنتمي المجتمعات الجمعية إلى بعضها أكثر من المجتمعات الفردانية.
المحور الثالث، محور الذكورة والأنوثة، حيث محور الذكورة هو المحور الذي تتقاطع فيه أدوار الذكورة مع الأنوثة بشكلٍ أقل، فللذكر دوره الخاص الذي لا تقوم به الأنثى وكذلك للأنثى دورها الخاص الذي لا يقوم به الذكر، وهناك أمور مشتركة قليلة يقوم بها الجنسين بالتساوي، أما محور الأنوثة هو المحور الذي تتقاطع الأدوار فيه بشكل أكبر، حيث يقوم الجنسين بكافة الأدوار على قدم المساواة باستثناء القليل منها.
المحور الرابع في دراسة هوفستد هو مؤشر تجنب الغموض Uncertainty Avoidance Index ويعبّر عنه بالمدى الذي تستطيع كل مجموعة أو أمة أن تتحمل قدراً عالياً من الضغط والتوتر حتى تتجنب المخاطرة. فكلما زاد هذا المؤشر كانت الأمة تعمل على تجنب الغموض وتعيش في نظام عادات وتقاليدَ تجيب على المتوقعات المستقبلية. أما الأمم التي ينخفض فيها الغموض فهي الأمم التي تقرر مصيرها في كل موقف على حدة.
المحور الخامس، التوجه طويل المدى والتوجه قصير المدى، أو يعبر عنه بأنه مؤشر الواقعية مقابل المعيارية، فالأمم ذات التوجه طويل المدى هي أمم عملية، متواضعة، واقتصادية وصبورة، لأنها تحسب الأمور على المدى الطويل من خلال وضع الاحتمالات والآمال الكثيرة، أما الأمم قصيرة المدى، فهي الأمم التي تركز على القوانين والمبادئ التي تحكم المواقف في الحال، وتعتمد على الحقائق او الاتساق بين الواقع والفكر، فهي أمم تبحث عن نتائجَ في الحال.
أما المحور السادس والأخير، فهو محور التساهل مقابل محور انضباط النفس. فالأمم المتساهلة تشجع إشباع الفرد لحاجياته وتستجيب لدوافعه وعواطفه بتساهل كبير، أما الأمم التي ينخفض فيها هذا المعيار فهي أمم ترتكز على تنظيم السلوك وتحوي في حياتها أعراف صارمة يسير وفقها المجتمع.
أهمية دراسة هوفستد
كانت هذه خلاصة الدراسة التي قام بها Hofstede وقد نال عليها تكريماً ملكياً وحصل من خلالها على رتبة فارس Knight وذلك غيرالتكريمات الشرفية الأخرى التي حصل عليها من سبع جامعاتٍ عالمية مرموقة. وهنا يبرز السؤال عن أهمية هذه الدراسة، فقد يقول أحدهم بأن الأمر سهلٌ ويمكن ادراكه بالاستقراء والتتبع. ولكنني أؤكد هنا على أن صاحب أي نظرية عندما يعرض نظريته لأصحاب الشأن، وبعد أن يثبت صدقها من خلال الأدلة، فإنه يريهم كيف يمكن لتطبيقات هذه النظرية أن تلعب دوراً هاماً يحقق لصاحب الشأن مصلحته. فإن كان صاحب الشأن مجتمع الفيزيائيين، يقوم صاحب النظرية ببيان التقدم الفيزيائي الذي تطرحه نظريته. وإن كان صاحب الشأن مجتمعاً سياسياً، فسيقوم صاحب النظرية ببيان المنافع الإجتماعية التي يمكن أن يحوزها هذا الجمع السياسي.
يمكن للمتأمل في هذه المحاور أن يفهمها وأن يبدأ بمراقبة الأمم والشعوب والجماعات وأن يضعها على تلك المحاور، ولكن، ماذا بعد؟
تطبيق نظرية هوفستد على المساعي الاستعمارية
إن هذه النظرية إذا ما أضيفت للعلوم الإعلامية الأخرى بل وحتى إلى المساعي الإستعمارية، كاللتي نشهدها واقعاً في بلادنا، فإنها – أي النظرية - تلعب دوراً محورياً وجوهرياً في قولبة المجتمعات، حيث تقوم النظرية الإستعمارية على أساس أن المجتمعات متغيرة، ويمكن إعادة برمجتها ونحت هويتها بكافة الوسائل، وذلك من خلال إعادة هيكلة وترتيب الأولويات كما أسلفتُ سابقاً في مقالتي عن الإعلام والهوية، حيث أشرتُ إلى أن الهوية ليست إلا منظومة من الأولويات.
إن فهم أبعاد هذه الدراسة، يعني فهم الجهود المطلوبة واللازمة لخلق التقارب بين المجتمعات ولتذويب الفوارق فيما بينها، وهو ما يصرح به صاحب النظرية. وقد تبدو هذه الكلمات إيجابية وجميلة في ظاهرها، ولكن يبرز السؤال، ما الداعي إلى هذه الجهود التي تذوب الفوارق؟ فمن ناحية فلسفية، أليست هذه الفوارق هي التي تخلق الأنا والآخر وتعتبر وجوده؟
التذويب الثقافي والهوية
ما الغاية من تذويب الفوارق؟ يبرز هذا السؤال كضرورة حتمية إذا ما وضعناه في ميزان الهوية. لأن الهوية تلعب دور نظام الحماية من الاختراقات الفكرية والإنسانية والتي عادةً ما ترمي في مساعيها إلى إقامة العلاقات حيث يكون فيها صاحب الأرض والمكان (الهوية الأصيلة) مذعناً لصاحب الهوية المفروضة. فيبرز هذا السؤال كضرورة حتمية أيضاً عند من يرى أن القوة المهيمنة هي اللاعب الوحيد في عملية التغيير والتذويب، مما يعني أن المحصلة هي ذوبان هوية الأصيل في هوية صاحب القوة.
إن تذويب الفوارق يعني بالضرورة هشاشة في هوية صاحب الأرض جعلته قابلاً للذوبان، ولا بُدّ حتماً أن منبع تلك الهشاشة داخلي، مثلَ كياناتٍ من صلب هوية المنطقة، أما إن كان الاستهداف خارجياً واضحاً فردة الفعل هي استجماع الهوية. أما الكيانات التي من صلب هوية المنطقة، فقد شكّلت جسراً ليستطيع صاحب القوة أن يُحدث اختراقاً في الهوية الأصيلة، وأستطيع أن أذكر أمثلةً واقعية ومطابقة، ولكنني سأترك هذا إلى خيال القارئ، ولا يمكن أن يكون الاختراق في الهوية خارجياً علناً، لأن أي اختراق خارجي يُقابل بالرفض والمقاومة، حيث يمكن تشخيص صاحب القوة بأنه كيانٌ غريب بسهولة.
خلاصة وتوصيات
في نظري، أرى أن الإشكال ينتج عند النظر إلى هذه المعايير على أنها معايير لقياس مدى نجاح الإمبريالية الواقعة إجتماعياً، وهو أمرٌ لا يمكن السيطرة عليه، فصاحب القوة (الإمبريالية) هو الحكم في هذه المسألة. على كل حال، تصبح هذه الدراسة ثروة إجتماعية حقيقية تبني الجسور إذا ما اعتبرنا هذه المقاييس مؤشراً على نجاح الحلول المطروحة ضمن كل معيار وفي كل مجموعة وأمة، ويحدث هذا الاستثمار في تلك النظرية إذا ما تعمقنا فيها وعرفنا الحد الذي يصبح فيه كل معيار كارثياً أو فعالاً، ولا يُنظر في كل معيارٍ على حدة، وإنما هي كالمعادلات الكيميائية، كل معيارين أو ثلاثة إذا ما اجتمعا، يمكن لها أن تنتج شكلاً اجتماعياً فريداً. وأضرب مثالاً وأسقط عليه الضوئ الاستعماري، لأنه مبحث مقالاتي جميعها، أن الفردانية في مجتمع أنوثي قصير المدى هو مجتمع تحكَمُ عليه السيطرة من أي سلطةٍ كانت، حيث الأنوثة تعني القبول والمرونة، والفردانية تزيل المناعة أمام الخطاب الإعلامي الممنهج، وقصر المدى يعمي عن رؤية إلى ما ستؤول إليه الأمور الراهنة، فيُخلق لدينا مجتمع مرنٌ في يد السلطة يتوهم فيه الأفراد بأنهم أحرار، ويؤول ذلك إلى أن يصبح المجتمع رهين السلطة بكل ود، وذلك يعني قمعٌ استباقي للثورات.
فعلا كتابة موفقة ، مبدع ببرزك للأفكار بشكل يجعل القارىء مستسهل لإدراك المحور
وأوافقك الرأي بمحاولة هوفستد اختراق المجتمعات لجعلها متطابقة
فقد شعرت انه محاولا سحب المجتمع العربي لما هو عليه وماهو متألف عليه اي عندما وضح بالمحور الأول "السلطة"كان يدرك مافهمنا للسلطة في بلادنا بعدم قبول المساواة (وهذا عقلاني ومنطقي )اما في بلادهم الغرب فهو امر مستسهل اكثر
اما المحور الثالث نعم هذا هو حالنا الآن في مفهومنا للتقدم والتطور وهو جعل المرأة الواجهة في السيطرة والتحكم فإذا امعنا النظر لبعض المناطق العربية المنفتحة ع الغرب نرى ان النساء هم مركز القوة وهذا يعد لديهم ان الرجل ذات عقلية انفتاحية لقبوله بالسيطرة المرأة عليه
اما بالمحور الخامس والسادس فهنا ركز ع صعوبة المنال في حصول الفرد ع رغباته وكا…