دائماً ما أدعو إلى النظر في نظريات القيادة ونظريات علم النفس الإجتماعي، حيث نظريات القيادة تُعنى بسلوك القائد، ونظريات علم النفس الإجتماعي تُعنى بسلوك المجتمع، وكلا المجالين يفكران بطريقة غائية (سلوك مبني على غاية محددة)، لا بطريقة تلقائية (سلوك عفوي أصيل). فلا يتطرق إلى هذين المجالين إلا من له غاية، لأنهما يتحدثان عن عواقب التلقائية في سلوك القائد والمجتمع.
الغائية في مجتمعات بلاد الشام
وتتبين في مجتمعاتنا في بلاد الشام أن الغائية حاضرة بقوة، لأن الوضع الراهن يحتم ذلك. فلا يمكن لإحتلال عسكري أن يكون شفافاً، وكذلك لا يمكن لدولة بلغ فيها الفقروالفساد ما بلغ أن يكون السلوك فيها شفافاً أيضاً، ولا يمكن لدولة تحارب الحريات باسم عقيدة أو دين أن يكون السلوك فيها تلقائياً، وكذلك لا يمكن لدولة أصيلةٍ مُستهدفة من العدو في المنطقة أن تتصرف بتلقائية، في حين أن العدو يقوم بالتخطيط والكيد لها.
نظرية تأثير الأقلية
إن أحد نظريات علم النفس الإجتماعي المهمة التي أود عرضها هي نظرية تأثير الأقلية Minority Influence، والأقلية هنا ليس اسماً لمجموعة دينية أو عرقية، وإنما هم من خرجوا عن السياق العام فكرياً. فلربما في مكان ما يكون عدد أفراد ديانة ما أو عرق ما هو الأقل، ولكنهم منسجمون مع السياق العام في ذلك المجتمع، فلا يعتبروا من الأقلية التي تطرحها هذه النظرية، لأن هذه النظرية تتحدث عن الأقلية من الناحية التأثيرية.
آلية عمل نظرية تأثير الأقلية
تعمل هذه النظرية كسلاح ذو حدين، والقرار الحكم فيها هو طبيعة تلك السلطة وطبيعة نظريات القيادة التي تطبقها على المجتمع.
فما الذي ينتج الأقلية التأثيرية ويسمح لها بالنمو والتقدم؟ من يعرف الأسباب المنتجة يمكنه أن يتحكم بدفة الأمور من خلال التحكم بالعوامل التي تنتج الأقليات التأثيرية، أو بإمكانه كذلك أن يطفئ النور تماماً أمام أي فرصة لنمو تلك الأقليات.
نظرية ماسلو للإحتياجات
أكثرنا يعرف، إلى حد ما، نظرية ماسلو للإحتياجات Maslow’s Hierarchy، التي تتحدث عن الإحتياجات الإنسانية وتعرضها في هرم، حيث لا يمكن لمجتمع أو فرد أن يكون في مرحلة متقدمة من الهرم دون أن يلبي احتياجاته المتدنية فيه. قد تبدو هذه النظرية من البساطة بمكان، إلا أن لتطبيقات هذه النظرية الكثير من الأبعاد وفي كافة المجالات، في الأسرة، في العمل، في الدولة، وفي النظام العالمي. إن أعلى منزلتين في هذا الهرم، لمن يتأملهما، تتميزان بالفردية، حتى وإن حدثتا بشكل جمعي لمجتمع ما، فإنه سيتفرد بين المجتمعات المحيطة. والفرد المرتقي في هذا السلم، بتفرد بين أفراد المجتمع، وهنا تبرز الأقلية التأثيرية، في أعلى هذا الهرم.
التداخل بين النظريتين في مجتمعات بلاد الشام
وبالنظر إلى الوضع الراهن، حيث رأس السلطة هو القائد العسكري الأعلى، وهو السلطة المطلقة في مجتمعات بلاد الشام المستعمَرة، فإنه يستطيع العزف على هذا السلم وضبط الإيقاع بحرّيّةٍ تُشبه المتناهية. فَلِرأس أي سلطة أن ينتج الكثير من الأقليات التأثيرية من خلال تحقيق الكفاية البدنية، والأمنية والإجتماعية حتى يصل المجتمع في أفراده إلى مستوى احترام الذات والسعي إلى تحقيق الذات وإطلاق القدرات. كما يمكن للسلطة أن تقمع كل مختلف من خلال ممارسات التشوية، والتخوين، وإشعار المجتمع بالخطر الدائم المحدق حتى لا يستطيع المجتمع أن يرتقي في سلم الإحتياجات النفسية بشكل طبيعي، أو من خلال إطلاق شعارات تتسم بالوطنية لكنها تحمل في طياتها الكثير من الطاقة الحادة التي تنفي الآخر وتقصي وجوده فردياً أو إقليمياً مثل شعارات الدولة أولاً أو الضرب على عواطف الناس بالأغاني الوطنية الحماسية التي تحمل فيها تنديداً مبطناً، أو، بمواجهة الأقلية التأثيرية من خلال سياسة الأقطاب المتناحرة وهي السياسة الأشد خطراً والتي تكون سبباً في خلق الحروب الأهلية.
وعوداً على بدء، يمكننا من خلال النظر إلى الواقع المُعاش أن نلاحظ الكيفية التي تمارس فيها نظرية الأقلية ونظرية ماسلو للحاجات بشكل متداخل ومترابط، فنظرية ماسلو هي آلة الإنتاج أو القمع، وكما أنها تعطي المؤشر إلى مدى وصول المجتمع إلى قدرته على إفراز الأقليات التأثيرية. وأيضاً تعمل الأقليات التأثيرية بشكل فاعلٍ في تمحيص أفكار وتصطدم مع طريقة سَيره، وخصوصاً عندما لا يلبي المجتمع حاجاته بحسب الهرم المطروح في النظرية، أو أنها تساهم بشكل متفرد لتقدم المجتمع، وذلك في المجتمعات التي يتاح لها أن تلبي حاجاتها.
قمع الأقليات التأثيرية
ومن الاستراتيجيات الأوضح في القمع المستمر لتلك الأقليات، إلصاق هوية رأس السلطة بهوية الدولة، مما يخلق نقصاً مستمراً أو تشوهاً في تلبية الحاجات الهرمية عند كل فرد، ولا تتم تلبية تلك الحاجات إلى بالسعي إلى إرضاء تلك السلطة وتطبيق الهرم عليها بدلاً من تطبيقه على الناس، فيسعى الناس إلى أمان جسد السلطة وراحتها وكفايتها حتى تصل إلى غاياتها الحقيقية، وتوصف هذه الحالة في الأوساط الشعبية بأن الشعب منافق، والسلطة فاسدة. إلا أنني أفرق كثيراً بين الفساد وبين الخروج عن نسيج المجتمع الحقيقي، وقد افرد لذلك سطوراً يوماً ما.
ديناميكية تأثير الأغلبية والأقلية
يقترح موسكوفيتشي أن تأثير الأغلبية (السياق العام) وتأثير الأقلية عمليتان مستقلتان تماماً، حيث تكون المقارنة والقبول من الآخرهي الديناميكية المحركة للأغلبية وللسياق العام وأسميها بالتكلّس، في حين أن الديناميكية المحركة للأقلية هي تحليل المعتقدات الشخصية والتأكد من سلامتها وصحتها، مما يؤدي إلى تحول الأقلية من معتقد إلى آخر وأسميها بالمرونة، وقد طرح موسكوفيتشي هذه الفكرة تحت إطار أسماه بنظرية التحويل Conversion Theory.
تشخيص الديناميكية الاستعمارية من خلال نظرية تأثير الأقلية
هذه النظرية وإن لم تكن هي السبب في وجود كياناتٍ متنوعة تخدم المصالح الاستعمارية، إلا أنها تشخص الديناميكية التي تعمل بها تلك الكيانات. فهناك كيانٌ ديني عمل لعقود على نشر أفكاره التي تمت هندستها لتكون هي الصورة المقلوبة لحياة الغرب، وذلك لغايات استعمارية، حيث تهدف هذه الطريقة إلى أن يعيش الناس في أسفل هرم الحاجات، وإن أرادوا العيش بكرامة، فسينظرون إلى الحلول الغربية على أنها الأمل المنشود، فتصبح حالة التحليل المفرزة للأقليات التي تحدث عنها موسكوفيتشي أشبه بالمتاهة المعقدة، حيث لا يجد الفرد أمامه أي ركيزة فكرية لتكون مرجعيةً سليمةً له.
يمكنك التأمل في هاتين النظريتين وملاحظة الأنماط في ممارسة الدول الإستعمارية حتى تتمكن من الخروج من السياق العام، فإن التحليل والمراقبة والتتبع المنطقي لمعتقدات الذات هو الوسيلة الأفضل للخروج من الأمواج البشرية المتكررة في السلوك والمفاهيم والعادات والتقاليد التي دخل فيها الكثير من الاستعمار الفكري، وخصوصاً في بلادنا، بلاد الشام. فأترك هذه المقالة دعوة للتأمل في كل ما يُسمع ويُقال في ظل هذه الكيانات التي تعمل لغايات يمكن إدراكها بالتحليل والنظر.
نجاح تأثير الأقليات على الغالبية يعتمد على عدة عوامل، مثل قوة الأقلية ونوع العلاقة بينها وبين الغالبية، وحجم الأقلية مقارنةً بالغالبية، ودرجة الاندماج أو الانفصال بينهما، والسياق الثقافي والسياسي في البلد. تاريخياً، يمكن للأقليات أن تؤثر على الغالبيات من خلال التأثير الثقافي والاجتماعي والسياسي، وغالباً ما تنشط حركات الأقليات لتحقيق حقوقها وتغيير السياسات والقوانين التي تؤثر عليها.
مقال جميل يعزز فكرة تأثير الغائية في المجتمعات على الصعيد السياسي والاجتماعي، فإن ذلك قد يؤدي إلى عدة تأثيرات سلبية:
انعدام الشفافية والمساءلة: قد تزيد الغائية من انعدام الشفافية في العمل السياسي والاجتماعي، مما يجعل من الصعب على المواطنين معرفة ما يحدث حقًا وكيف يتم اتخاذ القرارات، وبالتالي ينقص من فرص المساءلة.
تعزيز الفساد: يمكن للغائية أن تزيد من انتشار الفساد في المؤسسات السياسية والاجتماعية، حيث يمكن أن تستغل النخب القوة والسلطة في مصلحتها الشخصية دون احترام للقانون أو الأخلاق.
زيادة الانقسام والصراع: قد تؤدي الغائية إلى تصاعد الانقسامات والصراعات في المجتمعات، حيث يشعر الأفراد بالظلم وعدم التمثيل العادل، مما يزيد من التوترات الاجتماعية والسياسية.
تقويض الثقة العامة: يمكن أن تقوض الغائية الثقة العامة في المؤسسات السياسية والاجتماعية، مما يؤدي…