إن تعريف الهوية على أنها منظومة أولويات مستمدة من السياق الطبيعي للمنطقة الجغرافية هو معيار أساسي في تشخيص حالة الهوية. فتصورات المجتمع عن الأخلاق والطبيعة والفن والإنسان والأرض واللغة والحياة الإجتماعية (أولويات قصيرة المدى) والتصورات المستقبلية وتقرير المصير (أولويات طويلة المدى) هي البنية التحتية لكل مجتمع، رسمها تاريخ الإنسان وتواجده في تلك البقعة الجغرافية.
ولماذا أسميها بالأولوية؟
تخيل ثلاثةً دخلوا إلى محل التسوق لشراء البضاعة لحاجاتهم اليومية، كل واحدٍ فيهم من بلد مختلف وعرق وبيئة مختلفة. ينظر كل أحد إلى الرفوف ويتجاهل الكثير من المنتجات المعروضة، حتى يصل إلى المنتج الذي يريده، فيلتقطه ويضعه في السلة، كل شخص من هؤلاء يختار البضاعة التي سيستخدمها لصنع طعامه الذي اعتاد أن يصنعه في أرضه وفي بلاده، وكل أحدٍ بحسب تراثه. فالبضاعة الصينية لن تكون أولويةً لدى ابن بلاد الشام او لدى الأوروبي، والسبب، خبرةُ كل إنسان في أرضه وما تنتجه له وما اعتاد عليه. وفي كل موقف يمارسه الفرد فإنه يختار ويقرر بحسب المنشأ والتراث الذي نما فيه. حتى وإن ارتحل الإنسان إلى أرضٍ أخرى، فإنه سيتكيف مع مكانه الجديد بما يبدو له قريباً من منشئه. وذات المثال ينطبق على الأخلاق والمفاهيم واللغة والتصورات المستقبلية، بل وحتى الإنفعالات اتجاه ما يجب ولا يجب.
أولويات قصيرة المدى، وأولويات طويلة المدى
إذا ما نظرنا إلى تلك الأولويات والتي تشكل البنية التحتية في كل بلاد، فإن بعض تلك الأولويات مختص بالأرض وبالإنسان الذي على تلك الأرض، كعاداته وممارساته اليومية وأدواته كاللغة والحياة الإجتماعية وشكلها، وسأطلق على هذه المجموعة من الأولويات اسمَ الأولويات قصيرة المدى لارتباطها بالحياة اليومية الآنية للمجتمع، يلجأ إليها الإنسان كل يوم تقريباً ويمكن ممارستها بشكل فردي مهما تغير مكان الفرد. في حين أن لدينا في شق آخر، تطلعاتٌ مستقبلية وتقريرٌ لمصير المجموعة، هي أولويات أيضاً، ولكن مظلتها أوسع من مظلة البقعة الجغرافية، نشأت من علاقات الأمم ببعضها من حروبٍ ومعاهداتٍ قديمةٍ أو تجارة مشتركة. تشكل هذه الأولوية الجمعية موقع كل أمة بين الأمم، وتتخذ وقتاً طويلاً حتى تتمخض وتتشكل ولذلك سأسميها بالأولويات طويلة المدى وتكون عهدتها عادةً عند الساسة والقادة، وبها يقودون المجتمع.
وبالحديث عن الهوية كمنظومة أولويات، فإنها حتماً -الأولويات- موضوع بحث المستعمر، وخصوصاً إذا ما كان الإستعمار ناعماً (استعمار غير عسكري) طويل الأمد، يقوم على تغيير الأفكار والانتماءات والتصورات. فتقوم السياسات الإستعمارية الناعمة بنحت هوية البلاد المستَعمَرة بالدرجة الأولى، لأن الهوية هي المانع والحائط أمام أي ثقافة دخيلة تحاول مشاركة الموارد واستنزافها، لأن استثمار الموارد بشكل محدد هو أمرٌ ذو أولويةٍ داخلية عليا لدى كل أمة. أقول بأنها داخلية لأنه لا يُعقل أن تعمل أمةٌ وتصنع بحثاً عن سعادةِ وتقدم أمةٍ أخرى. فنحت الهوية التي يمارسها المستعمر يعني إعادة هيكلة الأولويات، طويلةِ المدى أو قصيرةِ المدى. وتتم إعادة الهيكلة لتلك الأولويات لتصبح متوافقةً مع ما يحقق أهداف المستعمر، وأهدافه تتمحور حول استغلال الموارد وفرض النفوذ العسكري. وحتى تقترب الصورة، فيمكننا أن نرى في بلاد الشام أن بلاداً ما أصبحت ترفض الكثير من الأولويات التاريخية لبلاد الشام، وبذات الوقت، تعاني تلك البلاد من استنزاف في الموارد، وحالة النفوذ العسكري فيها تتصدر بوجه غربي بعيدٍ عن هوية المنطقة، ونسبة كبيرة من الناس في تلك البلاد تؤيد هذه الأولويات بشكلها الغريب المنفصل عن سياق بلاد الشام المحيط بها، وفي حالاتٍ يتصدى هؤلاء الناس للخطاب الأصيل باعتباره خطاباً دخيلاً على الناس! فكيف تم ذلك؟
تسهل مهمة إعادة هيكلة الهوية إذا ما استطاع المستعمر أن يمسك بالمراكز التي تسيطر على الخطاب والقرارت في أي بلاد، فالقرارات تنحت السلوك، والخطاب يبرر هذا التغيير في السلوك وإبرازه على أنه الحل الأمثل، كما أن للخطاب دورٌ مهم في عزل المجموعة عن سياقها ونسيجها من خلال تعزيز نموذج هوية خاص يشعر وينفعل بما يحقق المصالح الإستعمارية، وقد نرى ذلك ظاهراً في خطابات الدولة أولاً في ظل حالةِ توغل إستعماري عسكري تتسبب بالحروب والكوارث في الدول المجاورة التي لم تذعن لشكل الهوية التي حاول المستعمر فرضها. وكذلك بتعزيز رموز ثقافية منتقاة في المأكل والملبس واللهجة (الأولويات قصيرة المدى)، وإظهارها على أنها الشكل الحقيقي للهوية وكأنها قد كانت كذلك منذ فجر التاريخ. وهنا أنصح بالعودة إلى مقالتي بعنوان، البطل الوهمي ضرورةٌ إستعمارية حتمية، والتي تبين أن ما حدث في بلاد الشام للسيطرة على الخطاب والقرارات لم يكن إلا سيناريو حتمي لا بديل عنه لإطالة أمد الإستعمار.
وإن من أهم ما يغير أولويات الهوية ويشوهها هو التغنّي بصناعات الغير وإنتاجهم وإنجازاتهم دون الانتباه إلى أهمية الإنتاج والإنجاز، حتى يصبح المجتمع سوقاً إستهلاكيةً بحتةً لما ينتجه ويصنعه المستعمر، وهنا أحيل القارئ للعودة إلى مقالتي الأخرى بعنوان المقاطعة! واستعادة الهوية.
ما أهمية النظر إلى الهوية على أنها منظومة أولويات؟
إن الأساليب الاستعمارية الناعمة، اللاعسكرية، تسعى لاختراق الجدران الفكرية لهوية المنطقة، وتسعى إلى إحاطة الفرد بخيارات المستعمر في كافة مناحي الحياة، في السياسة والإنتاج والأخلاق والتعاملات اليومية. والهدف من اختراق هذه الجدران الفكرية هو الوصول إلى الهوية الهدف التي يريدها المستعمِر، هوية ترى المستعمر نموذجاً مثالياً تُستقى منه الحلول، مما يطيل أمد وجود الإستعمار الناعم الذي يعمل على ترسيخ القوة العسكرية الغريبة وتسهيل استنزاف الموارد لصالح المستعمِر، وذلك بتحويل ولاءات الناس إلى المستعمِر المغلّف بغلاف الوطنية. إن حقيقة هذا الإختراق ليست إلا تغييراً في منظومة الأولويات، فبدلاً من أن يعتبر الناس أن البلاد تابعةٌ لمنظومةٍ وهوية تاريخية من المنطقة، تصير ولاءات الناس وفقاً للتاريخ الذي كتبه المستعمِر، وبدلاً من أن تكون المنطقة وحدةً واحدة يربطها التاريخ والدم والعادات والتقاليد والأنساب والمصالح والمصائر، تصبح الحدود الإستعمارية هي الأولوية في الفعل والانفعال، وتصبح قضايا التاريخ والدم والعادات والتقاليد والمصالح والمصائر منفصلةً عن سياقها الذي كان موجوداً ما قبل الإستعمار. وعلى هذا الأساس، يصبح الجوار ذو الهوية الأصيلة، الذي يعي ويفهم ويحارب الإستعمار، مصدراً للتهديد لتلك الدولة التي مورس عليها الإستعمار الفكري الناعم لسنواتٍ طوال حتى أصبحت لا تدرك هويتها.
إن فهم مبدأ الأولويات يسهل على الإنسان أن يعيد قراءة وجوده وهويته، وذلك بالنظر إلى الواقع المحيط وإلى مكونات ثقافته وموارد بلاده الطبيعية والتاريخية والسياحية ومدى استثمارها، ليدرك أن الخطاب الذي يُقدم على أنه خطابٌ وطني، هو خطاب استعماري يرهن الإنتاج والعسكرة لصالح القوى الغريبة التي جاءت من ما وراء البحار. وهنا ألمح سريعا إلى دور النخبة في كل مجتمع، أن يبرزوا هذه المفارقات بشكل علمي منظم يزيل الغشاء المتراكم على الوعي الذي تم نحته وتدجينه لصالح المستعمر.
هذه المقالة، مقدِّمة لمنهجية في قراءة الهوية في أي أمةٍ مورس عليها الإستعمار الثقافي الناعم الذي يغير مسار أي أمة لتصبح عدوةً لنفسها، لأن الإنسان عدو ما يجهل، فكيف إذا كان الجهل يدور حول السؤال الفلسفي المصيري، من أنا؟
Comments