آدم السرطاوي
يدرك المستعمِر أن أكبر عائق يواجهه في التوغل هو إما المقاومة العسكرية إذا ما كانت المواجهة جسدية بالسلاح، وإما المقاومة بالهوية والوعي إذا ما كانت المواجهة فكرية. ولا يستطيع المستعمر أن يترك المواجهة الفكرية بكل الأحوال، لكنه يمكن أن يتخلى عن المواجهة العسكرية في الحالات التي يمكن له فيها أن يتكمن من السلطة بطريقة يقبل فيها الجميع ويرضخ، ومن ثم تبدأ ممارسات نزع الإنسان عن هويته ويبدأ الإستعمار الفكري الناعم.
ومن إحدى طرق التمكن التي برع فيها الإستعمار في بلاد الشام، وأخص المستعمر البريطاني هنا بالتحديد، هي طريقةٌ أسميها بالبطل الوهمي. و في نظري، في السياق البريطاني والتاريخي الحديث، هي حالة حتمية الوقوع ولا شك فيها. وأعني بذلك أن البطل الوهمي كان هو الخيار الوحيد أمام البريطاني ليزرع نفسه في بلاد الشام، ولم تكن هناك طرق أخرى ليتمكن المشروع الصهيوني في المنطقة إلا من خلال التسلل وزرع الدخلاء.
البطل الوهمي، بطلٌ مصطنع، يفتقر إلى كل ما تمتلكه البطولة من معنى، لأن دور البطولة محدد يفرضه المستعمِر، فهو ثمرة الخبرة الإستعمارية البريطانية الطويلة عبر القرون والتي أنتجت الكثير من نظريات علم النفس الإجتماعي مثل نظرية التلاعب النرجسي Narcissistic Manipulation ، الميكافيلليةMachiavellianism ، والهيمنة الإجتماعية Social Dominance Theory، وكذلك Transactional Analysis، ونظرية الهوية الاجتماعية.
للدخول مباشرةً في فهم البطل الوهمي في الحالة المشرقية في بلاد الشام، فإنه إذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً، ما هي الخيارات التي كانت تملكها المملكة البريطانية الممتدة من أقصى آسيا إلى حد الأمريكيتين حتى تحافظ على مركزها الاستعماري ولتصون امبرياليتها العالمية؟ فلا تستطيع أي دولةٍ أن تبقي جيشها منتشراً في أقاصي الأرض في كافة المستعمرات إلى ما لا نهاية، أو حتى إلى أمد العشرات من السنين. وكم عدد هذا الجيش الذي يمكن لدولةٍ حشده لينتشر حول العالم لإحكام تلك السيطرة؟ وخصوصاً أن طول أمد انتشار الجيوش له من التبعات الكثير، مثل حنين أفراد الجيش إلى بلادهم وحاجتهم إلى الراحة، كما أن لهم عوائل تنتظر عودتهم إلى البلاد، كما أنهم يتلقون المرتبات ويحتاجون إلى الأسلحة الجديدة المواكبة للعصر، والكثير من الأمور الأخرى التي تشكل ضغطاً نفسياً على الجيش المترامي في العالم وكذلك ضغطاً على قيادة هذا الجيش سواءً المركزية القابعة في بريطانيا أم القيادة اللامركزية المتواجدة في المستعمرات. فهل يكون الحل هو الانسحاب وترك كل شيء في تلك المستعمرات وتسليم البلاد إلى أهلها بعد دفع الأثمان الباهظة والأرواح وبذل المساعي الحثيثة في هذا التوسع إبان الحرب العالمية الأولى والثانية، بل قبل ذلك بكثير؟ أم أن على المستعمر أن يفكر بطريقة استراتيجية يكون فيها رابحاً في المستقبل، محافظاً على موقعه الاستعماري الامبريالي دون الحاجة إلى تكبد الاموال والأرواح والعناء الكثير الذي يترتب على انتشاء الجيوش في أنحاء المعمورة؟
الإستقلال، الإستعمار الناعم
إن واحدةً من الأمور التي يمكن لنا أن نبدأ في النظر إليها، هي أشكال الدول وأنظمتها وصفاتها حتى نفهم الماضي من خلال فهم الحاضر، لأن الحاضر نتيجةٌ للماضي، فما هي النتيجة التي بين يدينا الآن؟ وبما أن موضوعنا هو بلاد الشام، فبإمكاننا أن نرى أن نظاماً يتبع التقاليد البريطانية ويحمل الولاء البريطاني إلى أبعد حد، وآخر يحمل الولاء الفرنسي. ولا بد أن يثير هذا الأمر تساؤلاً لدينا، لأن هذه الدول تحتفل بإستقلالها! فكيف يمكن لدولة تتبع المراسيم البريطانية أن تكون قد استقلت من ولائها لبريطانيا؟ أم أنها استقلالات تحتاج إلى التدقيق؟
إذا ما قمنا ببحثٍ صغير لنرى تاريخ استقلال تلك الدول التي استقلت من بريطانيا، حيث هي موضوع البحث، ولأنها تشكل القوة الاستعمارية الأولى في بلاد الشام، والتي تظهر بالشكل الأمريكي الصهيوني، فسنجد أنه في الأربعينيات من القرن الماضي (ما بين 1940 – 1949) قد استقلت الكثير من الدول مثل بنغلادش 1947م، دولة بوتان 1947م، دولة كوموروس الأفريقية 1946م، الهند 1947م، الأردن 1946م، ميانمار 1948م، باكستان 1947م، سريلانكا 1948 ونلاحظ بأنها استقلالات (انسحابات بريطانية) جاءت بعد الحرب العالمية الثانية والتي انتهت عام 1945 بالسلاح النووي الذي كان سبباً في إخفاء حقيقة إنهاك الحلفاء (الغرب) عسكرياً، وهو سبب آخر للحاجة إلى حلّ يعيد لبريطانيا والغرب استقراره الإستعماري دون الحاجة إلى نشر قواته وجنوده في أنحاء الأرض.
ما الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا كل هذه الإستقلالات حدثت تباعاً في الأربيعينات من القرن الماضي؟ هل هي صحوة عالمية ضد البريطان؟ فإن كان الأمر كذلك، لماذا يعيش العالم بطريقة غربية؟ ولماذا لا تزال تلك الأنظمة التي استقلت تبدي الولاء في استثماراتها وتطلعاتها إلى البريطاني والغربي مع أنها استقلت؟!
كالعادة يستثمر الاستعمار في مواقف الضعف والاستكانة كما يستثمر في مواقف القوة والتمكن، وذلك من خلال وجوده في كافة الأطراف، وبذلك يستطيع المستعمر أن يخسر بكل اطمئنان في الجهة التي يريدها، وبتكاليف أقل من الخسارة التي يمكن أن تحصل في الحالة الطبيعية، لأنه يدير المعركة من الطرفين.
لا تشكل حالات الاستقلال التي ذكرتها في تلك الأعوام، أعوام العودة البريطانية إلى المركز، إلا حالة وهمية لا أساس للإستقلال فيها. هي عملية انهاء الوجود العسكري واحلاله بالوجود الناعم وهو ما يبرر استمرار وجود المستعمر وديمومته وانتشار أفكاره في المنطقة حتى بعد خروجه. وهنا يأتي دور البطل الوهمي الذي ليس له أي دور إلا أن ينفذ خطط المستعمرعلى شكل خطة وطنية قومية يرضاها الناس، بعد أن لعب دور البطل الذي حقق الإستقلال وحوّل أشكال المقاومة والرفض للاستعمار إلى حالة قبول وتوحد حول الإستعمار.
كي الوعي، والرأي والرأي الآخر
لا ينتهى دور البطل الوهمي هنا بقلب المشاعر السلبية إلى إيجابية من خلال عملية الإستقلال (تبدل الوجوه)، بل تبدأ معركة توطين المستعمر ودخوله إلى المنطقة على شكل شركات واستثمارات ودعوات اجتماعية تعمل على تحويل الشعوب المستعمَرَه إلى أن تكون هي أداة الاستعمار ذاتها بدلاً من الجيوش العسكرية، وذلك باستعمار العقل والهوية، إلى أن يصل الناس إلى درجة تبني الخطاب الإستعماري بأنفسهم ويصبح المستعمِر خياراً مقبولاً لديهم، أو أن يصبح هو الحل وهو صمام الأمان.
ولذلك، بعد كي الوعي ونحت الهوية بالشكل الذ يريده المستعمر، يصبح الرأي والرأي الآخر هو الوسيلة الأنجع، لأن الرأيين رأي المستعمر. كما أن الرأي والرأي الآخريضفي على البطل الوهمي حلُة الحداثة والديمقراطية والتقدم، مما يطيل عمره ويجذب الناس نحوه. وكما أنه في موقف القوة، وفي موقف صناعة الحدث، وفي موقف الترويج لفكرته، فلا يشكل الرأي والرأي الآخر أي خطرٍ على مسألة الوعي بالهوية لأن الرأي الآخر مهزومٌ بطبيعة الحال، بالخديعة التي حدثت يوم الإستقلال، وبأساليب التدجين والفصل عن الهوية، مثل ال Gaslighting، حيث يتم عزل الناس نفسياً وإحاطتهم بعالمٍ ينزعهم عن حقيقتهم التاريخية المشرفة، ليتساءلوا عن مدى نضج ذواتهم بل واحتقارها. ويمكن الرجوع لمقالتي بعنوان "تأثير الأقلية" والتي تشرح أحد الأساليب المتبعة في كي الوعي وحرب الهوية. وأي رأي آخر يمكن لهذا الوعي المحارَبِ أن ينتج؟ّ!
إنه إذا ما كان علينا أن نضع معياراً لكشف البطل الوهمي، فإننا حتماً يجب أن نؤمن بأن فكرة الفساد والبيروقراطية واستشرائها في أي وطن ما هي إلا فكرة استعمارية، والخط الفاصل بين الفساد الطبيعي والاستعماري هو مدى اعتماد الناس على ذواتهم، فلو كان الفساد طبيعياً في تلك البلاد فإنه يمكن إدراكه ولكنه لا يجب أن يستشري إلى أن يصبح الفرد معتاشاً على ما يصنعه الآخر ويزرعه. فإنه إن كان قائد الوطن فاسداً، فسيسرق من خيرات البلاد ذاتها دون أن يرهن الناس إلى الغرباء، أما إن كان قائد الوطن دخيلاً وهمياً، فإنه يبيع البلاد للغريب ويصبح الناس مرتهنين للغريب أيضاً.
Comments